فصل: فَصْلٌ: (الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ إِيثَارُ إِيثَارِ اللَّهِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ إِيثَارُ إِيثَارِ اللَّهِ]:

قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: إِيثَارُ إِيثَارِ اللَّهِ حَقِيقَتُهُ. فَإِنَّ الْخَوْضَ فِي الْإِيثَارِ دَعْوَى فِي الْمِلْكِ. ثُمَّ تَرْكُ شُهُودِ رُؤْيَتِكَ إِيثَارَ اللَّهِ. ثُمَّ غَيْبَتُكَ عَنِ التَّرْكِ.
يَعْنِي بِإِيثَارِ إِيثَارِ اللَّهِ: أَنْ تَنْسِبَ إِيثَارَكَ إِلَى اللَّهِ دُونَ نَفْسِكَ. وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِالْإِيثَارِ، لَا أَنْتَ. فَكَأَنَّكَ سَلَّمْتَ الْإِيثَارَ إِلَيْهِ. فَإِذَا آثَرْتَ غَيْرَكَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ الَّذِي آثَرَهُ هُوَ الْحَقُّ، لَا أَنْتَ. فَهُوَ الْمُؤْثِرُ حَقِيقَةً. إِذْ هُوَ الْمُعْطِي حَقِيقَةً.
ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ السَّبَبَ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ نِسْبَةُ الْإِيثَارِ إِلَى اللَّهِ، وَتَرْكِ نِسْبَتِهِ إِلَى نَفْسِكَ، فَقَالَ فَإِنَّ الْخَوْضَ فِي الْإِيثَارِ: دَعْوَى فِي الْمِلْكِ.
فَإِذَا ادَّعَى الْعَبْدُ: أَنَّهُ مُؤْثِرٌ فَقَدِ ادَّعَى مِلْكَ مَا آثَرَ بِهِ غَيْرَهُ. وَالْمِلْكُ فِي الْحَقِيقَةِ: إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ كُلُّ شَيْءٍ. فَإِذَا خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ دَعْوَى الْمِلْكِ فَقَدْ آثَرَ إِيثَارَ اللَّهِ- وَهُوَ إِعْطَاؤُهُ- عَلَى إِيثَارِ نَفْسِهِ. وَشَهِدَ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ هُوَ الْمُؤْثِرُ بِمِلْكِهِ. وَأَمَّا مَنْ لَا مِلْكَ لَهُ: فَأَيُّ إِيثَارٍ لَهُ؟.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تَرْكُ شُهُودِ رُؤْيَتِكَ إِيثَارَ اللَّهِ.
يَعْنِي أَنَّكَ إِذَا آثَرْتَ إِيثَارَ اللَّهِ بِتَسْلِيمِكَ مَعْنَى الْإِيثَارِ إِلَيْهِ: بَقِيَتْ عَلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةٌ أُخْرَى لَا بُدَّ مِنَ الْخُرُوجِ عَنْهَا. وَهِيَ أَنْ تَعْرِضَ عَنْ شُهُودِكَ رُؤْيَتَكَ أَنَّكَ آثَرْتَ الْحَقَّ بِإِيثَارِكَ، وَأَنَّكَ نَسَبْتَ الْإِيثَارَ إِلَيْهِ لَا إِلَيْكَ. فَإِنَّ فِي شُهُودِكَ ذَلِكَ، وَرُؤْيَتِكَ لَهُ: دَعْوَى أُخْرَى. هِيَ أَعْظَمُ مِنْ دَعْوَى الْمِلْكِ. وَهِيَ أَنَّكَ ادَّعَيْتَ أَنَّ لَكَ شَيْئًا آثَرْتَ بِهِ اللَّهَ. وَقَدَّمْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ فِيهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ لَكَ. وَهَذِهِ الدَّعْوَى أَصْعَبُ مِنَ الْأُولَى. فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأُولَى مِنَ الْمِلْكِ. وَتَزِيدُ عَلَيْهَا بِرُؤْيَةِ الْإِيثَارِ بِهِ فَالْأَوَّلُ: مُدَّعٍ لِلْمِلْكِ مُؤْثِرٌ بِهِ. وَهَذَا مُدَّعٍ لِلْمِلْكِ وَمُدَّعٍ لِلْإِيثَارِ بِهِ. فَإِذَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ شُهُودِ رُؤْيَتِهِ لِهَذَا الْإِيثَارِ. فَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ آثَرَ اللَّهَ بِهَذَا الْإِيثَارِ. بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ بِهِ دُونَكَ. فَإِنَّ الْأَثَرَةَ وَاجِبَةٌ لَهُ بِإِيجَابِهِ إِيَّاهَا بِنَفْسِهِ. لَا بِإِيجَابِ الْعَبْدِ إِيَّاهَا لَهُ.
قَوْلُهُ: ثُمَّ غَيْبَتُكَ عَنِ التَّرْكِ.
يُرِيدُ: أَنَّكَ إِذَا نَزَلْتَ هَذَا الشُّهُودَ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةَ: بَقِيَتْ عَلَيْكَ بَقِيَّةٌ أُخْرَى. وَهِيَ رُؤْيَتُكَ لِهَذَا التَّرْكِ الْمُتَضَمِّنَةُ لِدَعْوَى مِلْكِكَ لِلتَّرْكِ. وَهِيَ دَعْوَى كَاذِبَةٌ. إِذْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ شَيْءٌ مِنَ الْأَمْرِ. وَلَا بِيَدِهِ فِعْلٌ وَلَا تَرْكٌ. وَإِنَّمَا الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ.
وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي الْكَشْفِ وَالشُّهُودِ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ: أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ أَصْلًا وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ حَقِيقَةً. إِنَّمَا الْمَالِكُ بِالْحَقِيقَةِ سَيِّدُهُ. فَالْأَثَرَةُ وَالْإِيثَارُ وَالِاسْتِئْثَارُ كُلُّهَا لِلَّهِ وَمِنْهُ وَإِلَيْهِ. سَوَاءً اخْتَارَ الْعَبْدُ ذَلِكَ وَعَلِمَهُ، أَوْ جَهِلَهُ، أَمْ لَمْ يَخْتَرْهُ. فَالْأَثَرَةُ وَاقِعَةٌ. كَرِهَ الْعَبْدُ أَمْ رَضِيَ. فَإِنَّهَا اسْتِئْثَارُ الْمَالِكِ الْحَقِّ بِمِلْكِهِ تَعَالَى. وَقَدْ فَهِمْتُ مِنْ هَذَا قَوْلَهُ: فَإِنَّ الْأَثَرَةَ تَحْسُنُ طَوْعًا. وَتَصِحُّ كَرْهًا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ الْخُلُقِ:

[الْخُلُقُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ]
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْخُلُقِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: لَعَلَى دِينٍ عَظِيمٍ، لَا دِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ وَلَا أَرْضَى عِنْدِي مِنْهُ. وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ آدَابُ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَا كَانَ يَأْمُرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَيَنْهَى عَنْهُ مِنْ نَهْيِ اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ لَعَلَى الْخُلُقِ الَّذِي آثَرَكَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ. فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ وَلَا أَسْأَلَ شَيْئًا.
وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ ذُكِرَ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ: «مَا هَذَا؟» قَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ، فَسَأَلَ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ. فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ».
وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلْمُطَاعِ مَعَ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ.
أَحَدُهَا: أَمْرُهُمْ وَنَهْيُهُمْ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ.
الثَّانِي: أَخْذُهُ مِنْهُمْ مَا يَبْذُلُونَهُ مِمَّا عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّاعَةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ النَّاسَ مَعَهُ قِسْمَانِ: مُوَافِقٌ لَهُ مُوَالٍ، وَمُعَادٍ لَهُ مُعَارِضٌ. وَعَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ وَاجِبٌ.
فَوَاجِبُهُ فِي أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ: أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ. وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الَّذِي بِهِ صَلَاحُهُمْ وَصَلَاحُ شَأْنِهِمْ. وَيَنْهَاهُمْ عَنْ ضِدِّهِ.
وَوَاجِبُهُ فِيمَا يَبْذُلُونَهُ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ: أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ مَا سَهُلَ عَلَيْهِمْ، وَطُوِّعَتْ لَهُ بِهِ أَنْفُسُهُمْ، سَمَاحَةً وَاخْتِيَارًا. وَلَا يَحْمِلَهُمْ عَلَى الْعَنَتِ وَالْمَشَقَّةِ فَيُفْسِدَهُمْ.
وَوَاجِبُهُ عِنْدَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَ عَلَيْهِ: الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ. وَعَدَمُ مُقَابَلَتِهِمْ بِالْمِثْلِ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ. فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي خُذِ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَأَعْمَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَخْسِيسٍ، مِثْلَ قَبُولِ الْأَعْذَارِ، وَالْعَفْوِ وَالْمُسَاهَلَةِ، وَتَرْكِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي الْبَحْثِ، وَالتَّفْتِيشِ عَنْ حَقَائِقِ بَوَاطِنِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: خُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَهُوَ الْفَاضِلُ عَنِ الْعِيَالِ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} وَهُوَ كُلُّ مَعْرُوفٍ. وَأَعْرَفُهُ: التَّوْحِيدُ. ثُمَّ حُقُوقُ الْعُبُودِيَّةِ وَحُقُوقُ الْعَبِيدِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} يَعْنِي إِذَا سَفِهَ عَلَيْكَ الْجَاهِلُ فَلَا تُقَابِلْهُ بِالسَّفَهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ. بَلْ يُعْرِضُ عَنْهُ مَعَ إِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَلَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ.
وَهَكَذَا كَانَ خُلُقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا. وَقَالَ: مَا مَسَسْتُ دِيبَاجًا وَلَا حَرِيرًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَا شَمَمْتُ رَائِحَةً قَطُّ أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَقَدْ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ. فَمَا قَالَ لِي قَطُّ: أُفٍّ. وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: أَلَا فَعَلْتَ كَذَا؟ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْبِرَّ: هُوَ حُسْنُ الْخُلُقِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟ فَقَالَ: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ. وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ. وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ».
فَقَابَلَ الْبِرَّ بِالْإِثْمِ. وَأَخْبَرَ: أَنَّ الْبِرَّ حُسْنُ الْخُلُقِ. وَالْإِثْمَ: حَوَازُ الصُّدُورِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ: هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ. وَهُوَ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ، وَشَرَائِعُ الْإِسْلَامِ. وَلِهَذَا قَابَلَهُ بِالْإِثْمِ.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ الْبِرُّ: مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ , وَقَدْ فُسِّرَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِأَنَّهُ الْبِرُّ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ: طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ. وَالْإِثْمُ حَوَازُ الصُّدُورِ، وَمَا حَاكَ فِيهَا، وَاسْتَرَابَتْ بِهِ. وَهَذَا غَيْرُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَسُوئِهِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ. كَمَا سَيَأْتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خِيَارُكُمْ: أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا».
وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلَ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ. وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ». قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَفِيهِ أَيْضًا- وَصَحَّحَهُ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: «تَقْوَى اللَّهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ». وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ فَقَالَ: «الْفَمُ وَالْفَرْجُ».
وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَحَّحَهُ- إِنَّ مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا: أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا. وَخِيَارُكُمْ: خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ: لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا. وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ: لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
فَجَعَلَ الْبَيْتَ الْعُلْوِيَّ جَزَاءً لِأَعْلَى الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةِ. وَهِيَ حُسْنُ الْخُلُقِ. وَالْأَوْسَطَ لِأَوْسَطِهَا. وَهُوَ تَرْكُ الْكَذِبِ. وَالْأَدْنَى لِأَدْنَاهَا وَهُوَ تَرْكُ الْمُمَارَاةِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَقٌّ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذَا كُلِّهِ.
وَفِي التِّرْمِذِيَّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا. وَإِنَّ مِنْ أَبْغَضِكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدِكُمْ مِنِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ. فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: الْمُتَكَبِّرُونَ». الثَّرْثَارُ: هُوَ كَثِيرُ الْكَلَامِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ دِينِيَّةٍ. وَالْمُتَشَدِّقُ: الْمُتَكَلِّمُ بِمِلْءِ فِيهِ تَفَاصُحًا وَتَعَاظُمًا وَتَطَاوُلًا، وَإِظْهَارًا لِفَضْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَهْقِ. وَهُوَ الِامْتِلَاءُ.

.فَصْلٌ: [الدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ]:

الدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ؛ فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ: زَادَ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ. وَكَذَلِكَ التَّصَوُّفُ.
قَالَ الْكِنَانِيُّ: التَّصَوُّفُ هُوَ الْخُلُقُ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ: فَقَدْ زَادَ عَلَيْكَ فِي التَّصَوُّفِ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ حَقِيقَتُهُ بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى.
وَقِيلَ: حُسْنُ الْخُلُقِ: بَذْلُ الْجَمِيلِ، وَكَفُّ الْقَبِيحِ.
وَقِيلَ: التَّخَلِّي مِنَ الرَّذَائِلِ، وَالتَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ.
وَحُسْنُ الْخُلُقِ يَقُومُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ قِيَامُ سَاقِهِ إِلَّا عَلَيْهَا: الصَّبْرُ، وَالْعِفَّةُ، وَالشَّجَاعَةُ، وَالْعَدْلُ.
فَالصَّبْرُ: يَحْمِلُهُ عَلَى الِاحْتِمَالِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَكَفِّ الْأَذَى، وَالْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ وَالرِّفْقِ، وَعَدَمِ الطَّيْشِ وَالْعَجَلَةِ.
وَالْعِفَّةُ: تَحْمِلُهُ عَلَى اجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ وَالْقَبَائِحِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى الْحَيَاءِ. وَهُوَ رَأْسُ كُلِّ خَيْرٍ. وَتَمْنَعُهُ مِنَ الْفَحْشَاءِ، وَالْبُخْلِ وَالْكَذِبِ، وَالْغَيْبَةِ وَالنَّمِيمَةِ.
وَالشَّجَاعَةُ: تَحْمِلُهُ عَلَى عِزَّةِ النَّفْسِ، وَإِيثَارِ مَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَالشِّيَمِ، وَعَلَى الْبَذْلِ وَالنَّدَى، الَّذِي هُوَ شَجَاعَةُ النَّفْسِ وَقُوَّتُهَا عَلَى إِخْرَاجِ الْمَحْبُوبِ وَمُفَارَقَتِهِ. وَتَحْمِلُهُ عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ وَالْحِلْمِ. فَإِنَّهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَشَجَاعَتِهَا يُمْسِكُ عِنَانَهَا، وَيَكْبَحُهَا بِلِجَامِهَا عَنِ النَّزْغِ وَالْبَطْشِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ: الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» وَهُوَ حَقِيقَةُ الشَّجَاعَةِ، وَهِيَ مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بِهَا الْعَبْدُ عَلَى قَهْرِ خَصْمِهِ.
وَالْعَدْلُ: يَحْمِلُهُ عَلَى اعْتِدَالِ أَخْلَاقِهِ، وَتَوَسُّطِهِ فِيهَا بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. فَيَحْمِلُهُ عَلَى خُلُقِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الذُّلِّ وَالْقِحَةِ. وَعَلَى خُلُقِ الشَّجَاعَةِ، الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْجُبْنِ وَالتَّهَوُّرِ. وَعَلَى خُلُقِ الْحِلْمِ، الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْغَضَبِ وَالْمَهَانَةِ وَسُقُوطِ النَّفْسِ.
وَمَنْشَأُ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ.
وَمَنْشَأُ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ السَّافِلَةِ، وَبِنَاؤُهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ: الْجَهْلُ. وَالظُّلْمُ. وَالشَّهْوَةُ. وَالْغَضَبُ.
فَالْجَهْلُ: يُرِيهِ الْحَسَنَ فِي صُورَةِ الْقَبِيحِ، وَالْقَبِيحَ فِي صُورَةِ الْحَسَنِ. وَالْكَمَالَ نَقْصًا وَالنَّقْصَ كَمَالًا.
وَالظُّلْمُ: يَحْمِلُهُ عَلَى وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. فَيَغْضَبُ فِي مَوْضِعِ الرِّضَا. وَيَرْضَى فِي مَوْضِعِ الْغَضَبِ. وَيَجْهَلُ فِي مَوْضِعِ الْأَنَاةِ. وَيَبْخَلُ فِي مَوْضِعِ الْبَذْلِ. وَيَبْذُلُ فِي مَوْضِعِ الْبُخْلِ. وَيُحْجِمُ فِي مَوْضِعِ الْإِقْدَامِ. وَيُقْدِمُ فِي مَوْضِعِ الْإِحْجَامِ. وَيَلِينُ فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ. وَيَشْتَدُّ فِي مَوْضِعِ اللِّينِ. وَيَتَوَاضَعُ فِي مَوْضِعِ الْعِزَّةِ. وَيَتَكَبَّرُ فِي مَوْضِعِ التَّوَاضُعِ.
وَالشَّهْوَةُ: تَحْمِلُهُ عَلَى الْحِرْصِ وَالشُّحِّ وَالْبُخْلِ، وَعَدَمِ الْعِفَّةِ وَالنَّهْمَةِ وَالْجَشَعِ، وَالذُّلِّ وَالدَّنَاءَاتِ كُلِّهَا.
وَالْغَضَبُ: يَحْمِلُهُ عَلَى الْكِبْرِ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، وَالْعُدْوَانِ وَالسَّفَهِ.
وَيَتَرَكَّبُ مِنْ بَيْنِ كُلِّ خُلُقَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ: أَخْلَاقٌ مَذْمُومَةٌ.
وَمِلَاكُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ أَصْلَانِ: إِفْرَاطُ النَّفْسِ فِي الضَّعْفِ، وَإِفْرَاطُهَا فِي الْقُوَّةِ. فَيَتَوَلَّدُ مِنْ إِفْرَاطِهَا فِي الضَّعْفِ: الْمَهَانَةُ وَالْبُخْلُ، وَالْخِسَّةُ وَاللُّؤْمُ، وَالذُّلُّ وَالْحِرْصُ، وَالشُّحُّ وَسَفْسَافُ الْأُمُورِ وَالْأَخْلَاقِ.
وَيَتَوَلَّدُ مِنْ إِفْرَاطِهَا فِي الْقُوَّةِ: الظُّلْمُ وَالْغَضَبُ وَالْحِدَّةُ، وَالْفُحْشُ وَالطَّيْشُ.
وَيَتَوَلَّدُ مِنْ تَزَوُّجِ أَحَدِ الْخُلُقَيْنِ بِالْآخَرِ أَوْلَادُ غِيَّةٍ كَثِيرُونَ. فَإِنَّ النَّفْسَ قَدْ تَجْمَعُ قُوَّةً وَضَعْفًا. فَيَكُونُ صَاحِبُهَا أَجْبَرَ النَّاسِ إِذَا قَدَرَ، وَأَذَلَّهُمْ إِذَا قُهِرَ، ظَالِمًا عَنُوفًا جَبَّارًا. فَإِذَا قُهِرَ صَارَ أَذَلَّ مِنِ امْرَأَةٍ: جَبَانًا عَنِ الْقَوِيِّ، جَرِيئًا عَلَى الضَّعِيفِ.
فَالْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ: يُوَلِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، كَمَا أَنَّ الْأَخْلَاقَ الْحَمِيدَةَ: يُوَلِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَكُلُّ خُلُقٍ مَحْمُودٍ مُكْتَنَفٌ بِخُلُقَيْنِ ذَمِيمَيْنِ. وَهُوَ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا. وَطَرَفَاهُ خُلُقَانِ ذَمِيمَانِ، كَالْجُودِ: الَّذِي يَكْتَنِفُهُ خُلُقَا الْبُخْلِ وَالتَّبْذِيرِ. وَالتَّوَاضُعِ: الَّذِي يَكْتَنِفُهُ خُلُقَا الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ. وَالْكِبْرِ وَالْعُلُوِّ.
فَإِنَّ النَّفْسَ مَتَى انْحَرَفَتْ عَنِ التَّوَسُّطِ انْحَرَفَتْ إِلَى أَحَدِ الْخُلُقَيْنِ الذَّمِيمَيْنِ وَلَا بُدَّ، فَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ التَّوَاضُعِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى كِبْرٍ وَعُلُوٍّ، وَإِمَّا إِلَى ذُلٍّ وَمَهَانَةٍ وَحَقَارَةٍ. وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْحَيَاءِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى قِحَةٍ وَجُرْأَةٍ، وَإِمَّا إِلَى عَجْزٍ وَخَوَرٍ وَمَهَانَةٍ، بِحَيْثُ يُطْمِعُ فِي نَفْسِهِ عَدُوَّهُ. وَيَفُوتُهُ كَثِيرٌ مِنْ مَصَالِحِهِ. وَيَزْعُمُ أَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَيَاءُ. وَإِنَّمَا هُوَ الْمَهَانَةُ وَالْعَجْزُ، وَمَوْتُ النَّفْسِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الصَّبْرِ الْمَحْمُودِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى جَزَعٍ وَهَلَعٍ وَجَشَعٍ وَتَسَخُّطٍ، وَإِمَّا إِلَى غِلْظَةِ كَبِدٍ، وَقَسْوَةِ قَلْبٍ، وَتَحَجُّرِ طَبْعٍ. كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
تَبْكِي عَلَيْنَا. وَلَا نَبْكِي عَلَى أَحَدٍ فَنَحْنُ أَغْلَظُ أَكْبَادًا مِنَ الْإِبِلِ. وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْحِلْمِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى الطَّيْشِ وَالتَّرَفِ وَالْحِدَّةِ وَالْخِفَّةِ، وَإِمَّا إِلَى الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ وَالْحَقَارَةِ. فَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ حِلْمُهُ حِلْمُ ذُلٍّ وَمَهَانَةٍ وَحَقَارَةٍ وَعَجْزٍ، وَبَيْنَ مَنْ حِلْمُهُ حِلْمُ اقْتِدَارٍ وَعَزَّةٍ وَشَرَفٍ. كَمَا قِيلَ:
كُلُّ حِلْمٍ أَتَى بِغَيْرِ اقْتِدَارٍ ** حُجَّةٌ لَاجِئٌ إِلَيْهَا اللِّئَامُ

وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْأَنَاةِ وَالرِّفْقِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى عَجَلَةٍ وَطَيْشٍ وَعُنْفٍ، وَإِمَّا إِلَى تَفْرِيطٍ وَإِضَاعَةٍ. وَالرِّفْقُ وَالْأَنَاةُ بَيْنَهُمَا.
وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْعِزَّةِ الَّتِي وَهَبَهَا اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى كِبْرٍ، وَإِمَّا إِلَى ذُلٍّ. وَالْعِزَّةُ الْمَحْمُودَةُ بَيْنَهُمَا.
وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الشَّجَاعَةِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى تَهَوُّرٍ وَإِقْدَامٍ غَيْرِ مَحْمُودٍ، وَإِمَّا إِلَى جُبْنٍ وَتَأَخُّرٍ مَذْمُومٍ.
وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْمُنَافَسَةِ فِي الْمَرَاتِبِ الْعَالِيَةِ وَالْغِبْطَةِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى حَسَدٍ، وَإِمَّا إِلَى مَهَانَةٍ، وَعَجْزٍ وَذُلٍّ وَرِضَا بِالدُّونِ.
وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنِ الْقَنَاعَةِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى حِرْصٍ وَكَلَبٍ، وَإِمَّا إِلَى خِسَّةٍ وَمَهَانَةٍ وَإِضَاعَةٍ.
وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الرَّحْمَةِ انْحَرَفَتْ: إِمَّا إِلَى قَسْوَةٍ، وَإِمَّا إِلَى ضَعْفِ قَلْبٍ وَجُبْنِ نَفْسٍ، كَمَنْ لَا يَقْدَمُ عَلَى ذَبْحِ شَاةٍ، وَلَا إِقَامَةِ حَدٍّ، وَتَأْدِيبِ وَلَدٍ. وَيَزْعُمُ أَنَّ الرَّحْمَةَ تَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ ذَبَحَ أَرْحَمُ الْخَلْقِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً. وَقَطَعَ الْأَيْدِيَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَضَرَبَ الْأَعْنَاقَ. وَأَقَامَ الْحُدُودَ وَرَجَمَ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى مَاتَ الْمَرْجُومُ. وَكَانَ أَرْحَمَ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَرْأَفَهُمْ.
وَكَذَلِكَ طَلَاقَةُ الْوَجْهِ، وَالْبِشْرُ الْمَحْمُودُ. فَإِنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَ التَّعْبِيسِ وَالتَّقْطِيبِ وَتَصْعِيرِ الْخَدِّ، وَطَيِّ الْبِشْرِ عَنِ الْبَشَرِ، وَبَيْنَ الِاسْتِرْسَالِ بِذَلِكَ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ، بِحَيْثُ يُذْهِبُ الْهَيْبَةَ، وَيُزِيلُ الْوَقَارَ، وَيُطْمِعُ فِي الْجَانِبِ، كَمَا أَنَّ الِانْحِرَافَ الْأَوَّلَ يُوقِعُ الْوَحْشَةَ وَالْبَغْضَةَ، وَالنُّفْرَةَ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ.
وَصَاحِبُ الْخُلُقِ الْوَسَطِ: مَهِيبٌ مَحْبُوبٌ، عَزِيزٌ جَانِبُهُ، حَبِيبٌ لِقَاؤُهُ. وَفِي صِفَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ. وَمَنْ خَالَطَهُ عِشْرَةً أَحَبَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [تَغْيِيرُ الْأَخْلَاقِ الَّتِي طُبِعَتِ النُّفُوسُ عَلَيْهَا]:

نَافِعٌ جِدًّا عَظِيمُ النَّفْعِ لِلسَّالِكِ. يُوصِلُهُ عَنْ قَرِيبٍ، وَيُسَيِّرُهُ بِأَخْلَاقِهِ الَّتِي لَا يُمْكِنُهُ إِزَالَتُهَا. فَإِنَّ أَصْعَبَ مَا عَلَى الطَّبِيعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ: تَغْيِيرُ الْأَخْلَاقِ الَّتِي طُبِعَتِ النُّفُوسُ عَلَيْهَا. وَأَصْحَابُ الرِّيَاضَاتِ الصَّعْبَةِ وَالْمُجَاهَدَاتِ الشَّاقَّةِ إِنَّمَا عَمِلُوا عَلَيْهَا، وَلَمْ يَظْفَرْ أَكْثَرُهُمْ بِتَبْدِيلِهَا. لَكِنَّ النَّفْسَ اشْتَغَلَتْ بِتِلْكَ الرِّيَاضَاتِ عَنْ ظُهُورِ سُلْطَانِهَا. فَإِذَا جَاءَ سُلْطَانُ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ وَبَرَزَ: كَسَرَ جُيُوشَ الرِّيَاضَةِ وَشَتَّتَهَا. وَاسْتَوْلَى عَلَى مَمْلَكَةِ الطَّبْعِ.
وَهَذَا فَصْلٌ يَصِلُ بِهِ السَّالِكُ مَعَ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ. وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى عِلَاجِهَا وَإِزَالَتِهَا. وَيَكُونُ سَيْرُهُ أَقْوَى وَأَجَلَّ وَأَسْرَعَ مِنْ سَيْرِ الْعَامِلِ عَلَى إِزَالَتِهَا.
وَنُقَدِّمُ قَبْلَ هَذَا مَثَلًا نَضْرِبُهُ. مُطَابِقًا لِمَا نُرِيدُهُ. وَهُوَ: نَهْرٌ جَارٍ فِي صَبَبِهِ وَمُنْحَدَرِهِ، وَمُنْتَهٍ إِلَى تَغْرِيقِ أَرْضٍ وَعُمْرَانٍ وَدُورٍ. وَأَصْحَابُهَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي حَتَّى يُخَرِّبَ دُورَهُمْ. وَيُتْلِفَ أَرَاضِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. فَانْقَسَمُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ.
فِرْقَةٌ صَرَفَتْ قُوَاهَا وَقُوَى أَعْمَالِهَا إِلَى سَكْرِهِ وَحَبْسِهِ وَإِيقَافِهِ. فَلَا تَصْنَعُ هَذِهِ الْفِرْقَةُ كَبِيرَ أَمْرٍ. فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَجْتَمِعَ ثُمَّ يَحْمِلَ عَلَى السَّكْرِ، فَيَكُونُ إِفْسَادُهُ وَتَخْرِيبُهُ أَعْظَمَ.
وَفِرْقَةٌ رَأَتْ هَذِهِ الْحَالَةَ. وَعَلِمَتْ أَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْهَا شَيْئًا. فَقَالَتْ: لَا خَلَاصَ مِنْ مَحْذُورِهِ إِلَّا بِقَطْعِهِ مِنْ أَصْلِ الْيَنْبُوعِ. فَرَامَتْ قَطْعَهُ مِنْ أَصْلِهِ. فَتَعَذَّرَ عَلَيْهَا ذَلِكَ غَايَةَ التَّعَذُّرِ، وَأَبَتِ الطَّبِيعَةُ النَّهْرِيَّةُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِبَاءِ، فَهُمْ دَائِمًا فِي قَطْعِ الْيَنْبُوعِ، وَكُلَّمَا سَدُّوهُ مِنْ مَوْضِعٍ نَبَعَ مِنْ مَوْضِعٍ، فَاشْتَغَلَ هَؤُلَاءِ بِشَأْنِ هَذَا النَّهْرِ عَنِ الزِّرَاعَاتِ وَالْعِمَارَاتِ وَغَرْسِ الْأَشْجَارِ.
فَجَاءَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ، خَالَفَتْ رَأْيَ الْفِرْقَتَيْنِ. وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ قَدْ ضَاعَ عَلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنْ مَصَالِحِهِمْ. فَأَخَذُوا فِي صَرْفِ ذَلِكَ النَّهْرِ عَنْ مَجْرَاهُ الْمُنْتَهِي إِلَى الْعُمْرَانِ، فَصَرَفُوهُ إِلَى مَوْضِعٍ يَنْتَفِعُونَ بِوُصُولِهِ إِلَيْهِ. وَلَا يَتَضَرَّرُونَ بِهِ. فَصَرَفُوهُ إِلَى أَرْضٍ قَابِلَةٍ لِلنَّبَاتِ. وَسَقَوْهَا بِهِ. فَأَنْبَتَتْ أَنْوَاعَ الْعُشْبِ وَالْكَلَأِ وَالثِّمَارِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَصْنَافِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ هُمْ أَصْوَبَ الْفِرَقِ فِي شَأْنِ هَذَا النَّهْرِ.
فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا الْمَثَلُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ: أَنْ رَكَّبَ الْإِنْسَانَ- بَلْ وَسَائِرَ الْحَيَوَانِ- عَلَى طَبِيعَةٍ مَحْمُولَةٍ عَلَى قُوَّتَيْنِ: غَضَبِيَّةٍ. وَشَهْوَانِيَّةٍ. وَهِيَ الْإِرَادِيَّةُ.
وَهَاتَانِ الْقُوَّتَانِ هُمَا الْحَامِلَتَانِ لِأَخْلَاقِ النَّفْسِ وَصِفَاتِهَا. وَهُمَا مَرْكُوزَتَانِ فِي جِبِلَّةِ كُلِّ حَيَوَانٍ. فَبِقُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَالْإِرَادَةِ: يَجْذِبُ الْمَنَافِعَ إِلَى نَفْسِهِ. وَبِقُوَّةِ الْغَضَبِ: يَدْفَعُ الْمَضَارَّ عَنْهَا. فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الشَّهْوَةَ فِي طَلَبِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ: تَوَلَّدَ مِنْهَا الْحِرْصُ. وَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْغَضَبَ فِي دَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ نَفْسِهِ: تَوَلَّدَ مِنْهُ الْقُوَّةُ وَالْغَيْرَةُ. فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ الضَّارِّ: أَوْرَثَهُ قُوَّةَ الْحِقْدِ. وَإِنْ أَعْجَزَهُ وُصُولُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَرَأَى غَيْرَهُ مُسْتَبِدًّا بِهِ: أَوْرَثَهُ الْحَسَدَ. فَإِنْ ظَفِرَ بِهِ: أَوْرَثَتْهُ شِدَّةُ شَهْوَتِهِ وَإِرَادَتُهُ: خُلُقَ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ. وَإِنِ اشْتَدَّ حِرْصُهُ وَشَهْوَتُهُ عَلَى الشَّيْءِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ تَحْصِيلُهُ إِلَّا بِالْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، فَاسْتَعْمَلَهَا فِيهِ: أَوْرَثَهُ ذَلِكَ الْعُدْوَانَ، وَالْبَغْيَ وَالظُّلْمَ. وَمِنْهُ يَتَوَلَّدُ: الْكِبْرُ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ. فَإِنَّهَا أَخْلَاقٌ مُتَوَلَّدَةٌ مِنْ بَيْنِ قُوَّتَيِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ، وَتَزَوُّجِ أَحَدِهِمَا بِصَاحِبِهِ.
فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَالنَّهْرُ مِثَالُ هَاتَيْنِ الْقُوَّتَيْنِ. وَهُوَ مُنْصَبٌّ فِي جَدْوَلِ الطَّبِيعَةِ وَمَجْرَاهَا إِلَى دُورِ الْقَلْبِ وَعُمْرَانِهِ وَحَوَاصِلِهِ، يُخَرِّبُهَا وَيُتْلِفُهَا وَلَا بُدَّ. فَالنُّفُوسُ الْجَاهِلَةُ الظَّالِمَةُ تَرَكَتْهُ وَمَجْرَاهُ. فَخَرَّبَ دِيَارَ الْإِيمَانِ. وَقَلَعَ آثَارَهُ. وَهَدَمَ عُمْرَانَهُ. وَأَنْبَتَ مَوْضِعَهَا كُلَّ شَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ، مِنْ حَنْظَلٍ وَضَرِيعٍ وَشَوْكٍ وَزَقُّومٍ. وَهُوَ الَّذِي يَأْكُلُهُ أَهْلُ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ الْمَعَادِ.
وَأَمَّا النُّفُوسُ الزَّكِيَّةُ الْفَاضِلَةُ: فَإِنَّهَا رَأَتْ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ هَذَا النَّهَرِ. فَافْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ.
فَأَصْحَابُ الرِّيَاضَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ، وَالْخَلَوَاتِ وَالتَّمْرِينَاتِ: رَامُوا قَطْعَهُ مِنْ يَنْبُوعِهِ. فَأَبَتْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا طَبَعَ عَلَيْهِ الْجِبِلَّةَ الْبَشَرِيَّةَ. وَلَمْ تَنْقَدْ لَهُ الطَّبِيعَةُ. فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ. وَدَامَ الْحَرْبُ. وَحَمِيَ الْوَطِيسُ. وَصَارَتِ الْحَرْبُ دُوَلًا وَسِجَالًا. وَهَؤُلَاءِ صَرَفُوا قُوَاهُمْ إِلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى إِزَالَةِ تِلْكَ الصِّفَاتِ.
وَفِرْقَةٌ أَعْرَضُوا عَنْهَا. وَشَغَلُوا نُفُوسَهُمْ بِالْأَعْمَالِ. وَلَمْ يُجِيبُوا دَوَاعِيَ تِلْكَ الصِّفَاتِ مَعَ تَخْلِيَتِهِمْ إِيَّاهَا عَلَى مَجْرَاهَا، لَكِنْ لَمْ يُمَكِّنُوا نَهْرَهَا مِنْ إِفْسَادِ عُمْرَانِهِمْ. بَلِ اشْتَغَلُوا بِتَحْصِينِ الْعُمْرَانِ، وَإِحْكَامِ بِنَائِهِ وَأَسَاسِهِ وَرَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ النَّهْرَ لَا بُدَّ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ. فَإِذَا وَصَلَ وَصَلَ إِلَى بِنَاءٍ مُحْكَمٍ فَلَمْ يَهْدِمْهُ. بَلْ أَخَذَ عَنْهُ يَمِينًا وَشِمَالًا. فَهَؤُلَاءِ صَرَفُوا قُوَّةَ عَزِيمَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ فِي الْعِمَارَةِ، وَإِحْكَامِ الْبِنَاءِ. وَأُولَئِكَ صَرَفُوهَا فِي قَطْعِ الْمَادَّةِ الْفَاسِدَةِ مِنْ أَصْلِهَا، خَوْفًا مِنْ هَدْمِ الْبِنَاءِ.
وَسَأَلْتُ يَوْمًا شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَطْعِ الْآفَاتِ، وَالِاشْتِغَالِ بِتَنْقِيَةِ الطَّرِيقِ وَتَنْظِيفِهَا؟
فَقَالَ لِي جُمْلَةَ كَلَامِهِ: النَّفْسُ مِثْلُ الْبَاطُوسِ- وَهُوَ جُبُّ الْقَذَرِ- كُلَّمَا نَبَشْتَهُ ظَهَرَ وَخَرَجَ. وَلَكِنْ إِنْ أَمْكَنَكَ أَنْ تَسْقَفَ عَلَيْهِ، وَتَعْبُرَهُ وَتَجُوزَهُ، فَافْعَلْ، وَلَا تَشْتَغِلْ بِنَبْشِهِ. فَإِنَّكَ لَنْ تَصِلَ إِلَى قَرَارِهِ. وَكُلَّمَا نَبَشْتَ شَيْئًا ظَهَرَ غَيْرُهُ.
فَقُلْتُ: سَأَلْتُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْضَ الشُّيُوخِ؟ فَقَالَ لِي: مِثَالُ آفَاتِ النَّفْسِ مِثَالُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ الَّتِي فِي طَرِيقِ الْمُسَافِرِ. فَإِنْ أَقْبَلَ عَلَى تَفْتِيشِ الطَّرِيقِ عَنْهَا، وَالِاشْتِغَالِ بِقَتْلِهَا: انْقَطَعَ. وَلَمْ يُمْكِنْهُ السَّفَرُ قَطُّ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ هِمَّتُكَ الْمَسِيرَ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا، وَعَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا. فَإِذَا عَرَضَ لَكَ فِيهَا مَا يَعُوقُكَ عَنِ الْمَسِيرِ فَاقْتُلْهُ. ثُمَّ امْضِ عَلَى سَيْرِكَ.
فَاسْتَحْسَنَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ذَلِكَ جِدًّا. وَأَثْنَى عَلَى قَائِلِهِ.
إِذَا تَبَيَّنَ هَذَا. فَهَذِهِ الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: رَأَتْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ مَا خُلِقَتْ سُدًى وَلَا عَبَثًا. وَأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ مَاءٍ يُسْقَى بِهِ الْوَرْدُ، وَالشَّوْكُ، وَالثِّمَارُ، وَالْحَطَبُ، وَأَنَّهَا صَوَّانٌ وَأَصْدَافٌ لِجَوَاهِرَ مُنْطَوِيَةٍ عَلَيْهَا. وَأَنَّ مَا خَافَ مِنْهَا أُولَئِكَ هُوَ نَفْسُ سَبَبِ الْفَلَاحِ وَالظَّفَرِ. فَرَأَوْا أَنَّ الْكِبْرَ نَهْرٌ يُسْقَى بِهِ الْعُلُوُّ وَالْفَخْرُ، وَالْبَطَرُ وَالظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ. وَيُسْقَى بِهِ عُلُوُّ الْهِمَّةِ، وَالْأَنَفَةُ، وَالْحَمِيَّةُ، وَالْمُرَاغَمَةُ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ، وَقَهْرُهُمْ وَالْعُلُوُّ عَلَيْهِمْ. وَهَذِهِ دُرَّةٌ فِي صَدَفَتِهِ. فَصَرَفُوا مَجْرَاهُ إِلَى هَذَا الْغِرَاسِ. وَاسْتَخْرَجُوا هَذِهِ الدُّرَّةَ مِنْ صَدَفَتِهِ. وَأَبْقَوْهُ عَلَى حَالِهِ فِي نُفُوسِهِمْ. لَكِنِ اسْتَعْمَلُوهُ حَيْثُ يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ أَنْفَعَ. وَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا دُجَانَةَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. فَقَالَ: «إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ، إِلَّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ».
فَانْظُرْ كَيْفَ خَلَّى مَجْرَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَهَذَا الْخُلُقِ يَجْرِي فِي أَحْسَنِ مَوَاضِعِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ- وَأَظُنُّهُ فِي الْمُسْنَدِ-: «إِنَّ مِنَ الْخُيَلَاءِ مَا يُحِبُّهَا اللَّهُ. وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُهَا اللَّهُ. فَالْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ: اخْتِيَالُ الرَّجُلِ فِي الْحَرْبِ، وَعِنْدَ الصَّدَقَةِ».
فَانْظُرْ كَيْفَ صَارَتِ الصِّفَةُ الْمَذْمُومَةُ عُبُودِيَّةً؟ وَكَيْفَ اسْتَحَالَ الْقَاطِعُ مُوصِلًا؟
فَصَاحِبُ الرِّيَاضَاتِ، وَالْعَامِلُ بِطَرِيقِ الرِّيَاضَاتِ وَالْمُجَاهِدَاتِ، وَالْخَلَوَاتِ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، إِنَّمَا يُوقِعُهُ ذَلِكَ فِي الْآفَاتِ، وَالشُّبُهَاتِ، وَالضَّلَالَاتِ. فَإِنَّ تَزْكِيَةَ النُّفُوسِ مُسَلَّمٌ إِلَى الرُّسُلِ. وَإِنَّمَا بَعَثَهُمُ اللَّهُ لِهَذِهِ التَّزْكِيَةِ وَوَلَّاهُمْ إِيَّاهَا. وَجَعَلَهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ دَعْوَةً، وَتَعْلِيمًا وَبَيَانًا، وَإِرْشَادًا، لَا خَلْقًا وَلَا إِلْهَامًا. فَهُمُ الْمَبْعُوثُونَ لِعِلَاجِ نُفُوسِ الْأُمَمِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وقال تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}.
وَتَزْكِيَةُ النُّفُوسِ: أَصْعَبُ مِنْ عِلَاجِ الْأَبْدَانِ وَأَشَدُّ. فَمَنْ زَكَّى نَفْسَهُ بِالرِّيَاضَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ وَالْخَلْوَةِ، الَّتِي لَمْ يَجِئْ بِهَا الرُّسُلُ: فَهُوَ كَالْمَرِيضِ الَّذِي عَالَجَ نَفْسَهُ بِرَأْيِهِ، وَأَيْنَ يَقَعُ رَأْيُهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الطَّبِيبِ؟ فَالرُّسُلُ أَطِبَّاءُ الْقُلُوبِ. فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَزْكِيَتِهَا وَصَلَاحِهَا إِلَّا مِنْ طَرِيقِهِمْ. وَعَلَى أَيْدِيهِمْ، وَبِمَحْضِ الِانْقِيَادِ، وَالتَّسْلِيمِ لَهُمْ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ الْخُلُقُ كَسْبِيًّا، أَوْ هُوَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنِ الْكَسْبِ؟.
قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ كَسْبِيًّا بِالتَّخَلُّقِ وَالتَّكَلُّفِ. حَتَّى يَصِيرَ لَهُ سَجِيَّةً وَمَلَكَةً وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «إِنْ فِيكَ لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ. فَقَالَ: أَخُلُقَيْنَ تَخَلَّقْتُ بِهِمَا. أَمْ جَبَلَنِي اللَّهُ عَلَيْهِمَا؟ فَقَالَ: بَلْ جَبَلَكَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا». فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنَ الْخُلُقِ: مَا هُوَ طَبِيعَةٌ وَجِبِلَّةٌ، وَمَا هُوَ مُكْتَسَبٌ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ «اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ. لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ» فَذَكَرَ الْكَسْبَ وَالْقَدَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.